ملف توثيقي: السودان.. بين معضلة السياسة والثروات

دخل السودان في معترك سياسي وأمني خطير، مع اندلاع المواجهات بين الجيش السوداني، بقيادة عبد الفتاح البرهان، وقوات الدعم السريع، بقيادة محمد حمدان دقلو، والمعروف بـ “حميدتي”، نهار السبت في 15 نيسان/أبريل 2023، وفيما كانت تحيي ذكرى اسقاط نظام الرئيس السابق عمر البشير، في 11 نيسان/أبريل 2019.

شكلت هذه الأحداث، ذروة الانقسامات في البلاد، والتي تتداخل فيها مساعي التفرد بالحكم والسلطة، وتعقيدات المشهد الداخلي السوداني الاجتماعي والقبلي، مع العوامل الخارجية، المتمثلة بالأطماع الإقليمية والدولية في هذا البلد، الذي وصف بأنه “سلة غذاء العالم العربي” ، وأكثر.

ولأن ثقب السلة كبير، يعاني 15 مليون سوداني، أي ثلث عدد السكان الإجمالي، من انعدام حاد في الغذاء، بحسب تقرير لبرنامج الأغذية العالمي ، الذي عزى الأزمة إلى الآثار المجتمعة للأزمة الاقتصادية والسياسية، والصراع والنزوح، والصدمات المناخية.

لكن الأرض الزراعية الخصبة في السودان، التي يؤمنها لها نهر النيل (الأزرق والأبيض)، ليست فقط ما تمتاز به “بلاد النوبة” فقط. فالنوب هو الذهب، ولذلك أطلق على تلك المنطقة الممتدة من جنوب مصر إلى السودان “أرض الذهب” ، لما تحويه من مناجم تقع معظمها في الجانب السوداني، إلى جانب البترول واليورانيوم خاصة في دارفور، والنحاس والكروم والرخام والغرانيت، بالإضافة إلى موقع جغرافي مميز، على حدود القرن الأفريقي، ومطل على البحر الأحمر.

ساهمت العقوبات الأمريكية على السودان منذ العام 1993، بوصفها “دولة راعية للإرهاب”، في تدهور الوضع الاقتصادي والإنساني في البلاد. وحرمت هذه العقوبات السودان من تلقي مساعدات غير إنسانية، مل المساعدات الاقتصادية والزراعية، كما منعته من الاستفادة من قروض وضمانات القروض والتأمينات التي يمنحها بنك التصدير والاستيراد الأميركي، التي تستخدم بشكل عام لتصدير البضائع والمنتجات الأميركية لدول العالم.

وأدت العقوبات إلى تفاقم المديونية العامة في السودان، إذ يدرج ضمن قائمة البلدان الفقيرة المثقلة بالديون، بحجم ديون يصل إلى 60 مليار دولار. كما أدت العقوبات إلى تراجع الاستثمارات الأجنبية الإنتاجية بشكل كبير. ورغم رفع العقوبات في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، ورغم التطبيع مع العدو الإسرائيلي، لم يحقق النظام السوداني ما كان يصبو إليه من تحسن في الواقع الاقتصادي والسياسي والإنساني.

تقدم لكم “وكالة يونيوز للأخبار” ملفاً توثيقياً عن السودان، يشمل دراسة الموقع الجغرافي للبلاد، ونظرة على التاريخ السياسي للسودان، كما يتناول تحليلاً لواقع الأزمة الحالية، ويعرض بالعمق المواقف الإقليمية والدولية المرتبطة بها، بالإضافة إلى أبعاد الصراع على السودان وثرواته، وأيضاً سيناريوهات المعركة وآفاق المرحلة المقبلة.

أولاً: الموقع الجغرافي للسودان
ثانياً: تاريخ السودان السياسي الحديث
ثالثاً: الأزمة الحالية في السودان
رابعاً: المواقف الإقليمية والدولية من الصراع
خامساً: سيناريوهات المعركة وآفاق المرحلة المقبلة

أولاً: الموقع الجغرافي للسودان


يحتل السودان موقعاً جغرافياً مميزاً، بمساحة تقارب مليونين كلم مربع (مليون وثمانمائة ألف وستمئة وثمانين كلم مربع)، يحدها من الشمال مصر، وليبيا من الشمال الغربي، وتشاد من الغرب، وجمهورية أفريقيا الوسطى من الجنوب الغربي، وجنوب السودان من جهة الجنوب، وإثيوبيا من الجنوب الشرقي والبحر الأحمر من الشرق، ويبلغ عدد سكانه أكثر من 40 مليون نسمة.

ويكتسب السودان موقعاً استراتيجياً، فهو يطل على البحر الأحمر بمسافة تقدر بـ 780 كلم، كما يعد امتداداً طبيعياً لمنطقة القرن الإفريقي، التي تعتبر من المناطق الاستراتيجية التي تتنافس الدول الكبرى في الحصول نفوذ فيها. وتضم هذه المنطقة 4 دول، هي الصومال وجيبوتي وإريتريا وإثيوبيا، وتتسع عند النظر لها من زاوية سياسية واقتصادية لتشمل كينيا والسودان وجنوب السودان وأوغندا.

ويكتسب القرن الإفريقي أهميته الاستراتيجية من كون دوله تطل على المحيط الهندي من ناحية، وتتحكم في المدخل الجنوبي للبحر الأحمر حيث مضيق باب المندب من ناحية ثانية، من ثم فهو يتحكم في طريق التجارة العالمية، خصوصاً تجارة النفط المتدفق من دول الخليج والمتوجه إلى أوروبا والولايات المتحدة. كما أنها تعد ممراً لأي تحركات عسكرية آتية من أوروبا أو الولايات المتحدة في اتجاه منطقة الخليج.

وتشكل إطلالة السودان على البحر الأحمر، عنصراً استراتيجياً يضاف إلى أهمية موقعها، كون هذه المنطقة تربط بين البحر المتوسط، ومنطقة الخليج، حيث تمر من الشواطئ السودانية، الصادرات النفطية الخليجية إلى أوروبا، وكذلك البضائع الصينية، كما انه طريق الاتصال بين الأساطيل البحرية العسكرية في المتوسط والمحيط الهندي، بالإضافة إلى ارتباطه بالصراع العربي الإسرائيلي، ففي شماله يقع خليج العقبة ومنطقة إيلات المحتلة.

كما ويعد بورتسودان مركزاً لوجستياً وتجارياً مهماً، ويضم منطقة استثمارية ومصفاة نفط رئيسة، ومن خلاله يُنقل نفط جنوب السودان إلى العالم الخارجي. وبحكم موقعه الجغرافي، فإن هذا الميناء، يتوسط ساحل البحر الأحمر، وتبلغ سعته حوالي 1.3 مليون حاوية سنوياً. كما أنه يعد حلقة وصل تربط السودان بمنطقة الشرق الأوسط، ونقطة عبور رئيسة لرحلات المسلمين الأفارقة للحج في السعودية سنوياً.

وتزداد أهمية الميناء مع الخطط المحتملة لتدشين خط سكك حديدية بين بورتسودان وداكار في السنغال، مما يُسهِّل طرق التجارة في القارة الإفريقية، ويربط 13 دولة أفريقية، (السودان، تشاد، نيجيريا، النيجر، بوركينا فاسو، مالي، السنغال، غامبيا، غينيا، وليبيا، الكاميرون، وأوغندا)، كما سيشكل نقطة التقاء مع المشروع الصيني لتنمية البنى التحتية للنقل، والذي يحمل اسم “طريق واحد.. حزام واحد” .

وتضم السواحل السودانية في البحر الأحمر، ثروات طبيعية هائلة، بالإضافة إلى ثروة سمكية هائلة. وتنبع أهمية الموقع الجغرافي للسودان، من كونه على جوار منطقة الخليج، الغنية بالنفط. كما أن وجود السودان في قلب القارة الأفريقية يجعل منه دولة مهمة للنفوذ العالمي. فالدولة التي تملك النفوذ في السودان يمكنها حسم الصراع في ليبيا التي تملك موارد نفطية وغازية ضخمة، كما أن السودان، يعتبر معبراً مهماً للمهاجرين من أفريقيا إلى أوروبا أو دول الخليج، ومركزاً لتهريب السلاح والإتجار بالمخدرات ، ما يعطي للسودان أهمية قصوى، بالنسبة للأمن الأوروبي.

ويرى محللون، أن السلطة التي تهيمن على المشهد السياسي في السودان ستتمكن من التحكم في المثلث الغني باليورانيوم، الذي يمتد من دارفور إلى جنوب ليبيا وشرق تشاد. وهو مثلث مهم لمستقبل الوقود النووي، في وقت تواجه أوروبا أزمة طاقة، وذلك إضافة إلى أهمية اليورانيوم العسكرية.

ويلعب موقع السودان في الجزء الشمالي الشرقي للقارة الإفريقية، دوراً أساسياً في ترسيخ مكانته كجسر استراتيجي، بوصفه المدخل الأنسب لإفريقيا جنوب الصحراء عبر بوابة البحر الأحمر، واعتباره حلقة وصل تربط بين شمال القارة وجنوبها، وبوابة مركزية لشرق ووسط وغرب القارة الإفريقية، خاصة أنه يُجاور دولاً مهمة عديدة، هي مصر وليبيا وإثيوبيا وجنوب السودان وتشاد وإفريقيا الوسطى. وبحكم موقعه الجغرافي، فإن السودان يقع بالقرب من عدة مناطق استراتيجية تشهد تنافساً دولياً وإقليمياً ساخناً مثل الشرق الأوسط ومنطقة الخليج والمحيط الهندي والبحر الأبيض المتوسط.

اما بما خص القطاع الزراعي، فبحسب التقارير الرسمية السودانية، فإن ما يستفاد منه في الزراعة لا يتجاوز 25% من مجمل المساحة الصالحة للزراعة البالغة 200 مليون فدان، بسبب إشكاليات في عمليات الري وضعف التوسع في الحزم التقنية واستخدام الأسمدة . كما اكتسب السودان مناخات متباينة تبعا لتباين كميات الأمطار وتوزيعها وتفاوت الغطاء النباتي وتنوع التربة، وهذا ما يعطي السودان دوراً مهماً في الأمن الغذائي العالمي، خصوصاً بعد أزمة أوكرانيا.

ثانياً: تاريخ السودان السياسي الحديث


نال السودان استقلاله في عام 1956، من الاستعمار البريطاني. وشكل حزبي الشعب الديمقراطي، والأمة اول حكومة ائتلافية، إلى أن قام الانقلاب العسكري الأول الناجح في البلاد بقيادة الفريق ابراهيم عبود، عام 1958، بعد انقلاب فاشل قام به مجموعة من ضباط الجيش بقيادة “اسماعيل كبيدة”، لتتوالى الانقلابات بعدها. وطبعت الانقلابات العسكرية، الحياة السياسية في البلاد، منذ الاستقلال، بينها العديد من المحاولات الفاشلة، لذلك سنتناول في هذا الجزء، تاريخ الانقلابات في السودان.

جرى اول انقلاب في تاريخ السودان بعد عام فقط من الاستقلال في 1957، وكان مصيره الفشل. قام به مجموعة من ضباط الجيش وطلاب الكلية الحربية بقيادة “إسماعيل كبيدة” ضد أول حكومة وطنية ديمقراطية برئاسة إسماعيل الأزهري وقد تم إحباط هذه المحاولة في مرحلتها الأخيرة.

وبعدها بعام، حصل انقلاب في كانون أول 1958، حيث نقلب اللواء “إبراهيم عبود” على حكومة الائتلاف الديمقراطية، التي كان يرأسها مجلس سيادة مكون من الزعيم “إسماعيل الأزهري” الذي يرأس المجلس ذاته و”عبد الله خليل” الذي يرأس الحكومة. حكم عبود البلاد لـ 7 سنوات، قام خلالها بحل جميع الأحزاب السياسية ومنع التجمعات وأوقف صدور الصحف، حتى قامت ضده ثورة شعبية عام 1964 سُميت بـ “ثورة أكتوبر” وأُعتبرت أول ثورة شعبية تطيح بالحكم العسكري في العالم العربي.

بدأت هذه الثورة في 21 أكتوبر 1964 من خلال مؤتمر عقد طلاب جامعة الخرطوم، في تحدً للحظر الذي تفرضه الحكومة والتنديد بالنظام، فوقعت اشتباكات بين الطلاب وبين قوات الأمن أدت لمقتل الطالب “أحمد القرشي”، وخلال تشييع جثمانه خرجت مظاهرات حاشدة تقدر بنحو 30 ألف شخص بقيادة أعضاء هيئة التدريس بالجامعة.

وفي 15 نوفمبر 1964 أجبرت أعمال الشغب والإضراب العام اللواء عبود على نقل السلطة التنفيذية إلى حكومة مدنية انتقالية، والاستقالة. وبعد نجاح ثورة أكتوبر 1964، تولى الحكم “سر الخاتم خليف” منصب رئيس الوزراء في الحكومة الانتقالية، إلى حين إجراء الانتخابات في أيار 1965 لتشكيل حكومة نيابية. ولكن الحكومة الجديدة لم تكن مستقرة ولم تكن قادرة على تلبية مطالب السودانيين بسبب الصراعات السياسية بين الأحزاب.

وبعد 4 سنوات من تولى الحكومة مناصب الحكم قام العميد “جعفر نميري” ومعه مجموعة من الضباط المحسوبين على الحزب الشيوعي والأحزاب القومية العربية، بانقلاب ألقوا عليه 25 مايو، وعن طريقه وصل نميري إلى حكم البلاد، واستمر حكمه 16 عاماً.

وفي عام 1971، قاد الضابط هاشم العطا ومجموعة من الضباط المحسوبين على الحزب الشيوعي في الجيش السوداني انقلابا استولوا فيه جزئيا على السلطة لمدة يومين. لكن النميري استعاد سلطته وحاكم الانقلابيين وعدد من المدنيين.

عام 1973، وقع خلاف داخل المؤسسة العسكرية تحول إلى تمرد عسكري جديد، قام به مجموعة من الضباط معلنين عزمهم محاربة “الاستعمار الجديد” وإنهاء التبعية للغرب التي اتهموا بها نظام النميري. لكن التمرد لم يستمر سوى 3 أيام، تدخلت بعدها قوى دولية وإقليمية تتقدمها مصر وليبيا بشراكة بريطانية، إلى جانب دعم داخلي لهذا التدخل قاده رجل أعمال سوداني هو خليل عثمان، الأمر الذي ساعد في القضاء على التمرد في وقت قياسي. وأعيدت السلطة للنميري.

وفي عام 1975، قاد ضابط الجيش حسن حسين، محاولة انقلاب جديدة لكنها أُحبطت وأُعدم منفذوها. وفي عام 1976، قاد العميد محمد نور سعد محاولة انقلاب على نظام النميري، الذي استخدم العنف البالغ لسحقها. وفي عام 1985، أعلن الجيش السوداني انتهاء حكم النميري بعد عصيان مدني شامل واحتجاجات على الغلاء. غير أن الفريق عبد الرحمن محمد حسن سوار الذهب تصدى لعملية عزل النميري معلنا تشكيل مجلس عسكري أعلى لإدارة المرحلة الانتقالية تحت رئاسته، وحدّد مدة هذه الفترة في سنة واحدة تجرى الانتخابات في نهايتها.

بعد عام أظهرت نتائج الانتخابات صعود غير مسبوق للإسلاميين، حيث نالوا 51 مقعدا، واحتلوا المرتبة الثالثة بعد كل من الحزب الاتحادي (63 مقعدا) وحزب الأمة (100 مقعد) الذي كان الصادق المهدي، يرأسه حينها.

وفي عام 1989، قاد العميد عمر حسن البشير انقلابا ضد الحكومة المدنية المنتخبة برئاسة رئيس الوزراء الراحل الصادق المهدي آنذاك، بالتعاون مع الزعيم حسن الترابي. لكم الجيش عاد وشن حملة اعتقالات طالت قادة جميع الأحزاب السياسية بمن فيهم حسن الترابي زعيم الجبهة الإسلامية القومية. وفي عام 1990، قاد اللواءان عبد القادر الكدرو ومحمد عثمان محاولة “انقلاب 28 رمضان” التي فشلت، وأعدم نظام البشير 28 ضابطا بمن فيهم قادة الانقلاب. وفي عام 1992، قاد العقيد أحمد خالد انقلابا نُسب إلى “حزب البعث”، لكن المحاولة أجهضت وتم سجن قادتها.

وفي عام 2019، وبعد أن حكم الفريق عمر البشير السودان لمدة 30 عاماً، أطاح به المجلس العسكري، بعد أشهر من انتفاضة شعبية تزعمتها نقابة المهنيين السودانيين وطلاب الجامعات بمساندة كل من قوى إعلان الحرية والتغيير. وقام وزير الدفاع آنذاك عوض بن عوف في 11 أبريل/نيسان 2019 بتشكيل مجلس عسكري برئاسته لإدارة حكم البلاد لفترة انتقالية مدتها عامان، إلى حين إجراء انتخابات مدنية. لكنّ الضغط الشعبي الذي تعرض له عوف أجبره على تقديم استقالته بعد 24 ساعة فقط من انقلابه، ليتولى الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان رئاسة المجلس العسكري عوضاً عنه.

وشهد العام 2021، العديد من المحاولات الانقلابية التي كان هدفها الإطاحة بالمجلس الانتقالي، وأولها في 11 تموز، حيث تم احباطها، واعتقال منفذيها وهم 12 ضابطاً. وجرت محاولة ثانية في 24 من الشهر ذاته، ن خلال رئيس أركان الجيش هاشم عبد المطلب أحمد الذي تمّ اعتقاله بوصفه قائد ومخطط المحاولة الانقلابية. وفي 21 أيلول أعلن العميد الطاهر أبو هاجة، المستشار الإعلامي للقائد العام للجيش إحباط محاولة انقلابية شهدتها البلاد قام بها اللواء ركن عبد الباقي الحسن عثمان بكراوي ومعه 22 ضابطاً برتب مختلفة وعدد من ضباط الصف والجنود ضد المجلس السيادي. في حين قال متحدث حكومي إنّ من بين مخططي العملية الانقلابية الفاشلة فلولاً من نظام “البشير” السابق.

أما آخر الانقلابات فكانت في 25 تشرين الأول، حيث انقلب قائد المجلس السيادي نفسه عبد الفتاح البرهان الذي انقلب على المدنيين واعتقل رئيس الوزراء السوداني، عبد الله حمدوك، قبل أن يطلق سراحه. وأعلن البرهان حالة الطوارئ في البلاد، وتعليق العمل ببعض مواد الوثيقة الدستورية، إضافة إلى حل مجلس السيادة الانتقالي، ومجلس الوزراء وإعفاء الولاة.

ثالثاً: الأزمة الحالية في السودان


بعد انقلاب عام 2021، توالت الأحداث في السودان ، ففي 25 تشرين الأول/أكتوبر 2021 تم توقيف الغالبية الساحقة من المسؤولين المدنيين، وبينهم رئيس الوزراء عبد الله حمدوك بعد رفضهم دعم “الانقلاب” الذي قاده قائد الجيش الفريق أول عبد الفتاح البرهان. حينها أعلن البرهان عبر التلفزيون الرسمي حالة الطوارئ بعد حل السلطات الانتقالية وإقالة عدد كبير من أعضاء الحكومة والأعضاء المدنيين في مجلس السيادة المسؤول عن قيادة المرحلة الانتقالية. وعلّقت واشنطن مساعدات بقيمة 700 مليون دولار للسودان.

وفي 26 تشرين الأول/أكتوبر، تظاهر آلاف السودانيين ضد الجيش في الخرطوم وأغلقوا الشوارع، فيما نشرت القوات الأمنية مدرعات على الجسور ومحاور الطرق الرئيسية. وفي المساء، وبعد العديد من الدعوات للإفراج عن رئيس الوزراء الذي كان قائد الجيش يحتجزه في بيته، أعيد عبد الله حمدوك إلى منزله حيث وضع قيد الإقامة الجبرية.

وفي 4 تشرين الثاني/نوفمبر وبفعل الضغط الدولي أفرج عن أربعة وزراء. في 11 تشرين الثاني/نوفمبر، شكل البرهان مجلس سيادة انتقاليا جديدا استبعد منه أربعة ممثلين لقوى الحرية والتغيير واحتفظ بمنصبه رئيسا للمجلس كما احتفظ الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي) قائد قوة الدعم السريع، المتهم بارتكاب تجاوزات إبان الحرب في دارفور وأثناء الانتفاضة ضد البشير، بمنصبه نائبا لرئيس المجلس.

وفي 21 تشرين الثاني/نوفمبر، توصّل الفريق أول عبد الفتاح البرهان ورئيس الوزراء عبد الله حمدوك إلى اتفاق بشأن عودة الأخير إلى رئاسة الحكومة السودانية، إلا أن ذلك لم يؤدِ إلى تهدئة الشارع واستمرت التظاهرات في مدن عدة. في اليوم التالي، أطلق سراح الكثير من السياسيين الذين اعتقلوا منذ الانقلاب.

وفي مساء الثاني من كانون الثاني/يناير 2022، أعلن رئيس الوزراء عبد الله حمدوك استقالته بعدما أسفر يوم جديد من الاحتجاجات عن مقتل ثلاثة متظاهرين. سقط مزيد من القتلى خلال الاحتجاجات في الأشهر التالية.

وفي 8 حزيران/يونيو، انطلقت محادثات برعاية الأمم المتحدة قاطعتها الأطراف المدنية الرئيسية ولا سيما قوى الحرية والتغيير، العمود الفقري للحكومة المدنية المقالة إثر الانقلاب، التي وضعت كشرط مسبق إنهاء القمع وإطلاق سراح السجناء السياسيين. فوي الحادي عشر، أرجئت الجولة الثانية من المحادثات إلى أجل غير مسمى. في 21 تموز/يوليو، في مواجهة الأزمة الغذائية المتفاقمة في السودان، أعلن البنك الدولي عن منح 100 مليون دولار مقابل “تحويلات مالية وغذائية”.

في 12 أيلول/سبتمبر، أعلنت الأمم المتحدة ومنظمة “أنقذوا الأطفال” أن نحو سبعة ملايين طفل سوداني محروم من التعليم وأن نحو 12 مليون طفل يواجه خطر الانقطاع عن التعليم. ويلامس التضخم شهريًا نسبة 200% وقيمة العملة تتراجع وسعر الخبز ازداد عشرة أضعاف منذ الانقلاب. وفي 18 تشرين الأول/أكتوبر، أعلن زعيم “قوى الحرية والتغيير” خالد عمر يوسف أن مفاوضات غير مباشرة جارية مع الجيش.

وفي 19 و20 تشرين الأول/أكتوبر، أدّت مواجهات قبلية في ولاية النيل الأزرق بجنوب السودان إلى سقوط 250 قتيلًا. ويعتبر خبراء أن الفراغ الأمني الذي أحدثه الانقلاب شجع على تجدد العنف القبلي. في 5 كانون الأول/ديسمبر، وقع اللواء برهان والقائد محمد حمدان دقلو، الرجل الثاني في النظام والعديد من القادة المدنيين وخصوصا من قوى الحرية والتغيير، اتفاقاً لإنهاء الأزمة.

وقالت قوى الحرية والتغيير، وهي فصيل مدني رئيسي كان انقلاب البرهان أطاح به، إن الاتفاق الإطاري يمهد الطريق لتشكيل سلطة مدنية انتقالية. تم التوقيع في حضور المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى السودان فولكر بيرتس ومحمد بلعيش سفير الاتحاد الافريقي لدى الخرطوم.

في 13 من نيسان/أبريل، انتشرت قوات الدعم السريع شبه العسكرية الموالية لدقلو في الخرطوم والمدن الرئيسية. والسبت 15 من نيسان/أبريل، أعلنت قوات الدعم السريع سيطرتها على مطار الخرطوم الدولي والقصر الجمهوري، إثر اندلع اشتباكات بينها وبين قوات الجيش. وسمع في الخرطوم دوي قوي لانفجارات وإطلاق نار قبل أن تتهم قوات الدعم السريع في بيان الجيش بمهاجمة معسكراتها.

وتصاعد التوتر منذ أشهر بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع شبه العسكرية، اللذين أطاحا معا بحكومة مدنية في انقلاب أكتوبر تشرين الأول 2021. وبلغ الخلاف ذروته من خلال خطة مدعومة دوليا لإطلاق عملية انتقال جديدة مع القوى المدنية. وكان من المقرر توقيع اتفاق نهائي في أوائل أبريل نيسان، في الذكرى الرابعة للإطاحة بالرئيس السابق عمر البشير.

وكان الأمر يتطلب من كل من الجيش وقوات الدعم السريع التنازل عن السلطة بموجب الخطة، وظهر الخلاف بشأن مسألتين على وجه الخصوص، الأولي هي الجدول الزمني لدمج قوات الدعم السريع في القوات المسلحة النظامية. والثانية هي التسلسل القيادي بين الجيش وقادة قوات الدعم السريع ومسألة الإشراف المدني. وعندما اندلع القتال، تبادل الطرفان اللوم في إثارة العنف. واتهم الجيش قوات الدعم السريع بنشر مقاتلين بشكل غير قانوني قبل اندلاع الصراع بأيام. فيما قالت قوات الدعم السريع، في أثناء تحركها صوب مواقع استراتيجية رئيسية في الخرطوم، إن الجيش حاول الاستيلاء على السلطة كاملة عبر مؤامرة مع موالين للبشير.

رابعاً: المواقف الإقليمية والدولية من الصراع


منذ اندلاع الصراع بين رئيس المجلس السيادي عبدالفتاح البرهان ونائبه قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي)، لم تخف البلدان الإقليمية والدولية خشيتها من انزلاق الوضع إلى مواجهة شاملة وحرب أهلية في البلاد، بسبب ما قد تفرزه من أزمة هجرة، وأيضاً تحول السودان إلى بؤرة توتر في أفريقيا، تؤثر على امدادات النفط في البحر الأحمر، وعلى تدفق الذهب والموارد الطبيعية الأخرى إلى الإمارات وغيرها من الدول. وأثار هذا الصراع، قلق الدول المجاورة والولايات المتحدة وبلدان أخرى، سواءً على صعيد مياه النيل المشتركة وخطوط أنابيب النفط، أو بسبب شكل الحكومة الجديدة وأزمة إنسانية قد تكون تلوح في الأفق.

وسعت كل دولة إلى التدخل في النزاع الحاصل، وفق رؤيتها لما يجري، وبحسب مصلحة أمنها القومي، فمصر أولى الدول التي تتأثر بالصراع، والتي سعت منذ اندلاع المواجهات إلى التواصل مع العديد من العواصم المؤثرة خصوصاً أبوظبي والرياض، بالإضافة إلى العواصم الغربية، بهدف وضع حد لما يجري.

مصر
تنطلق مصر من موقفها من جملة محددات، أبرزها، أن اندلاع حرب أهلية في السودان، يؤدي حكماً إلى تدفق اللاجئين إلى أراضيها. فهي غير قادرة على اتخاذ موقف واضح من الصراع، رغم أنها مقربة من الجيش السوداني، وترغب بقرارة نفسها أن يحسم عبد الفتاح البرهان الصراع لصالحه، لكن دون تأثر الأمني القومي المصري.

وتستضيف مصر نحو 5 ملايين سوداني فروا سابقاً من الفقر والقتال، وهذه الأعداد ارتفعت بشكل ملحوظ في الآونة الأخيرة، خصوصاً مع وجود اتفاقية لحرية الحركة بين البلدين، تسمح للمواطنين من الجانبين بالتنقل بينهما في الاتجاهين للإقامة والعمل.

بالإضافة إلى هذا السبب المهم، بالنسبة إلى مصر، فإن القاهرة لا ترغب بقيام نظام سوداني معادٍ لها، قد تكون له تداعيات خطيرة على الجارة الشمالية، يؤثر حكماً على الأمن المائي السوداني. فنظام سوداني حليف للقاهرة، لا يمكن الاستغناء عنه، في النزاع مع اثيوبيا حول سد النهضة. كما أن سد مروى في مدينة مروي شمال السودان، يعد مشروعا استراتيجياً تستفيد منه مصر بشكل مباشر، والغرض الاساسي منه تخفيف كمية الطمي والفيضانات عن بحيرة النوبة وناصر المصريتين ، حيث يحبس هذا السد 130 مليون طن سنوياً من الطمي. وهذا ما يفسر وجود قوات مصرية في تلك المنطقة، احتجزت قوات الدعم السريع عدداً من عناصرها، قبل أن يتم إطلاق سراحهم بعد أيام.

وما يعصب على مصر اتخاذ موقف واضح من الصراع بين البرهان وحميديتي، هو أن الأخير مقرب من الإمارات، التي تعد أحد أكبر الداعميين المالييين للنظام المصري، في وقت تبدو مصر بأمس الحاجة إلى هذا الدعم، بسبب الأزمة المالية التي تمر بها. كما أن مصر لا تريد التورط في هذا الصراع، على غرار ما فعلت في ليبيا، بعد تدخلها عسكرياً لصالح خليفة حفتر، الذي لم يتمكن من حسم الصراع في بلاده. كما أن مصر تخشى أن تتأثر الشراكة التجارية مع السودان، حيث تتدفق الصادرات السودان الزراعية والحيوانية إلى الأسواق المصرية، ومنها ما يعاد تصديره إلى دول أخرى في ظل العقوبات المفروضة على الخرطوم.

إثيوبيا
وبالنسبة إلى اثيوبيا، جارة السودان الشرقية، فلها مصلحة في ضمان الاستقرار في السودان، وعدم تصعيد الصراع، خشية أن يؤدي تطور الأوضاع، إلى خطر على سد النهضة الذي تبنيه على نهر النيل. وأكد وزير الخارجية ديميكي ميكونين، هذه المخاوف، معلناً أن بلاده شكلت لجنة وطنية لمتابعة تطورات ما يجري هناك، لافتاً إلى أن لدى اديس أبابا مخاوف حيال توسع دائرة الصراع السوداني، سيؤثر على المفاوضات الثلاثية لسد النهضة.

ورصدت صور الأقمار الاصطناعية تطورات متسارعة في سد النهضة الإثيوبي قد تشعل مجددا الخلاف الرئيسي بين أديس أبابا والقاهرة والخرطوم، فيما يبدو أن إثيوبيا تستغل المعارك في السودان لتسريع الملء الرابع للسد. وتنظر اثيوبيا تنظر بعين الريبة إلى الجيش السوداني، بعد أن قام مؤخراً بالتوغل في الأراضي الأثيوبية، والسيطرة على أراضٍ زراعية شاسعة، مستغلاً الحرب التي كانت تجري بين الجيش الأثيوبي جبهة تحرير تيغراي . كما اتهمت اديس أبابا الجيش السوداني، بدعم جبهة تيغراي، إلى جانب اريتيريا.

لذلك من غير المتوقع أن تقف اديس أبابا إلى جانب أي طرف في الصراع الدائر، التي اعتبرت أن الطرفين تنكراً لدورها في انهاء أزمة السودان، في إشارة إلى نجاحها في عقد اتفاق سلام أنهى الأزمة بين القوى السياسية والمكون العسكري بعد سقوط نظام الرئيس السابق عمر البشير.

أريتيريا
تتمتع أسمرة بعلاقات واسعة مع معظم الأطراف السياسية السودانية، بما فيها الأطراف الموقعة على اتفاق جوبا، فضلاً عن الأحزاب السياسية الكلاسيكية التي تربطها علاقات تاريخية مع إريتريا. لذلك فهي ترى أيضاً ضرورة بحل الأزمة، وتتمتع بتجربة في التوسط بين الأطراف السودانية، فسبق لها أن استضافت عام 2000 أول لقاء جمع عمر البشير مع زعيم التجمع الوطني الديمقراطي المعارض محمد عثمان الميرغني، وهو تجمع كان يقاتل الحكومة المركزية عبر الحدود الشرقية. كما توسطت إريتريا في عام 2006، وانهت حرباً بين النظام السوداني وبين جبهة الشرق، التي كانت تقاتل في مناطق الشرق السوداني، استمرت لأكثر من 13 عاماً.

تشاد
تقف تشاد الجارة الغربية للسودان في موقف لا يحسد عليه، فهي تعاني من حالة احتقان اجتماعية، بسبب أزمات اقتصادية ومعيشية، ونقص الاحتياجات الأساسية، وشح في الغاز والوقود وانقطاع الكهرباء والماء وارتفاع في أسعار المواد الغذائية.
وتربط تشاد والسودان، علاقات اجتماعية وثقافية تتمثل في المد القبلي، حيث توجد العديد من القبائل المشتركة بين الدولتين. وعلى الصعيد الاقتصادي، فإن التجار التشاديون يستخدمون ميناء بورتسودان في عملية استيراد بضائعهم من الخارج. أما على المستوى السياسي والأمني، فإن اغلب حركات التمرد التشادية، كانت تنطلق من السودان، خاصة إقليم دارفور الحدودي، في حين أن النظام التشادي، دعم الحركات المسلحة السودانية.

وفي الصراع الحالي، يبدو أن تشاد كما معظم الدول، غير قادرة على اتخاذ موقف علني من الصراع، فهي ترغب بالاستقرار أيضاً، ولا تتحمل أزمة لاجئين، تضاف إلى أزماتها الداخلية، حيث لجأ أكثر من 20 ألف سوداني إلى تشاد والعدد في تزايد مستمر ، في حين أنها تستضيف أيضاً آلاف اللاجئين السودانيين الذين دخلوا البلاد جراء الصراع في دارفور عام 2003.

السعودية والإمارات
لعبت السعودية والإمارات دورًا مهمًا في الشأن السوداني، لا سيما في دعمهما لقوات الدعم السريع. وقد قدم كلا البلدين مساعدات مالية وعسكرية لهذه لقوات، لاسيما وأنهما ركنا التحالف الذي قادته السعودية في حرب اليمن حيث شارك جنود سودانيون، كان معظمهم من الدعم السريع، الأمر الذي عزز قدراتها مالياً وعسكرياً.

يضاف إلى ذلك اهتمام الإمارات بالذهب الذي يملك حميدتي استثمارات كبيرة، فيه منذ أن منحه الرئيس السابق عمر البشير حقوق التنقيب عنه في جبل عامر حتى يتمكن من دفع مرتبات جنوده. ومن المحتمل أيضا أن دعم السعودية والإمارات للدعم السريع كان مدفوعًا بمسعى البلدين لمواجهة إيران في المنطقة، وفي الحفاظ على وجود عسكري قوي لهما في القرن الأفريقي.

وغلب على مواقف الدولتين الدعوة لضبط النفس وإنهاء القتال، ولم تبرز أي مواقف يمكن أن تحسب لصالح طرف دون الآخر. في حين دخلت السعودية بوساطة لدى طرفي النزاع، بالاشتراك مع الولايات المتحدة، لفتح باب أمام حل الأزمة بالحوار، وساهمت تلك المبادرة السعودية – المصرية بالتوصل إلى أكثر من هدنة، لم تلتزم بها القوى المتصارعة بالكامل.

تخشى السعودية من أن عدم استقرار الأوضاع في السودان أو قيام نظام خصم لها، يمكن أن يشكل خطراً مشروعها المستقبلي الضخم “نيوم”، الذي لن ينجح ويحقق أهدافه من دون استقرار البحر الأحمر. وتقود السعودية عملية إجلاء ضخمة لرعايا أجانب من السودان عبر ميناء بورتسودان إلى جدة، وأشارت وزارة الخارجية إلى أنها أجلت آلاف الأجانب ينتمون إلى 100 دولة .

لكن الإمارات علاقات مع حميدية، عبر مجموعة من الروابط والأنشطة. وبسبب مشاركة قوات حميدتي في حرب اليمن، أصبح هذا الرجل ركناً في الشبكات الإماراتية في المنطقة، التي توفر المقاتلين للقيام أنشطتها العسكرية. فتعززت القدرات العسكرية لهذه القوات بشكل كبير، وأيضاً قدراتها المالية.

كما استفادت الإمارات بشكل كبير من التجارة الغامضة للذهب السوداني، التي يشرف عليها حميدتي بشكل أساسي، فاشترت الذهب الخام من السودان، وتقوم ببيعها في الأسواق العالمية، باعتبارها مركز رئيسي لتداول الذهب بالعالم. ومن هنا تحدثت العديد عن أن الإمارات فتحت الباب لمجموعة “فاغنر” الروسية، للعمل بالذهب السوداني، بالنظر إلى العلاقة الجيدة التي تربط أبو ظبي بموسكو.

ويوجه العديد من الدبلوماسيين الغربيين أصابع الاتهام إلى الإمارات، بشأن دعم أمراء الحرب والترويج للارتزاق العسكري، في السودان. وتقول التقارير الغربية، إن من يريد إنهاء القتال في السودان، عليه أن يتحدث مع الإمارات، لان الطريق إلى حميدتي يمر عبر أبو ظبي .

الولايات المتحدة الأمريكية
كما العديد من الدول، اجرت الولايات المتحدة اتصالات مع طرفي النزاع السوداني، دعتهما إلى وقف فوري لإطلاق النار. وأفادت الأنباء أن واشنطن تدرس فرض عقوبات على أفراد من الجيش والدعم السريع، رغم أن المراقبين للشأن الأمريكي يقولون إن هذه العقوبات ستكون عديمة الجدوى .

وعشية اندلاع القتال، قدر عدد الأميركيين في السودان بـ 16 ألفاً، غالبيتهم مزدوجو الجنسية. وأشار ناشطون إلى أن وجود هذا العدد الكبير، مرتبط بموسم سفر الآلاف من السودانيين الأميركيين إلى بلادهم، لقضاء إجازات عيد الفطر هناك، وهذا الموسم معروف كذلك بأنه موسم للزواج وعقد القران. وعادة يسافر آلاف السودانيين في أواخر شهر رمضان، لأداء العمرة في بالسعودية، ومن ثم يقضون بعض الأيام التي يتخللها عيد الفطر في السودان في طريق عودتهم للولايات المتحدة.

وبالنسبة إلى الموقف الأمريكي المعلن، فإن واشنطن تدعم انتقال الحكم في الخرطوم من الجيش إلى حكومة مدنية، وتركز على تنفيذ الاتفاق الإطاري بهذا الشأن. لكن مراقبون يشيرون إلى أن النفوذ الأمريكي انحسر في السودان، مع تعليقها المساعدات المالية للجيش منذ الانقلاب على حكومة عبدالله حمدوك، لكنها تحاول التواصل مع حلفائها بالمنطقة لاستخدام نفوذهم لصالح وقف القتال، وتسليم السلطة إلى المدنيين .

لكن الولايات المتحدة كما الغرب، ينظر إلى الأزمة السودانية من منطلق استراتيجي، فهي أولا وبحكم الموقع الجغرافي للسودان، فإن تصاعد التوتر سيؤدي إلى التهاب في القارة الأفريقية، وسيكون له تداعيات على دول الجوار، خصوصاً اثيوبيا. كما أن الولايات المتحدة تخشى من أن تصبح السودان مركزاً لتدفق المهاجرين إلى دول الجوار وإلى أوروبا، بالإضافة إلى مليون مهاجر من دول أفريقية موجودون بالسودان، سيغادرون البلاد حكماً مع تصاعد التوتر.

وايضاً، تسعى الولايات المتحدة إلى مواجهة النفوذ الروسي في السودان، وهي كما الإتحاد الأوروبي تتهم شركة “ميروي للذهب”، على أنها فرع لمجموعة فاغنر ، وهي وسيلة للتحايل على العقوبات الأميركية “واستغلال ثروات السودان من الذهب”. فضلا عن أنها ترفض بشدة أي تقارب روسي سوداني، قد يفضي إلى أجل إقامة قاعدة عسكرية روسية في البحر الأحمر.

وفي أيار 2019، كشفت موسكو عن بنود اتفاقية مع الخرطوم، لتسهيل دخول السفن الحربية إلى موانئ البلدين. وصادق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عام 2020 على إنشاء قاعدة بحرية في السودان قادرة على استيعاب سفن تعمل بالطاقة النووية .

روسيا
دعمت روسيا الانقلاب الذي أقام به الجيش السوداني ، وأطاح بحكومة عبدالله حمدوك، التي كان يعول عليها الغرب في تسلم الحكم في البلاد، في حين أن السودان لم يدين العملية العسكرية في أوكرانيا. وتشير التقارير، إلى أن تدخل روسيا في الشأن السوداني يعد محدودا، إذ يتركز من الناحية الشكلية بشكل أساسي على تقديم المساعدة العسكرية والتدريب للجيش السوداني.

ويتوافق هذا الدعم مع استراتيجية روسيا الأوسع نطاقاً لزيادة نفوذها في إفريقيا وتأمين الوصول إلى الموارد الطبيعية. ويذكر أن قائد الدعم السريع كان قد زار موسكو في الأسبوع الأخير من فبراير / شباط 2022 في زيارة استغرقت ثمانية أيام أثارت جدلًا واسعًا حيث جرى الحديث وقتها عن إمكانية منح موسكو قاعدة عسكرية في ميناء بورتسودان .

ويتهم الغرب مجموعة فاغنر، بالتعاون مع الدعم السريع في مجال التسليح والتدريب وفي الحراسة وفي قطاع الذهب. ورغم أن المجموعة وقائد الدعم السريع سارعا إلى نفي أي دور لهما في القتال الدائر حاليًا إلا أن التقارير الغربية، تزعم أن مجموعة فاغنر تزود قوات الدعم السريع بالصواريخ للمساعدة في قتالها ضد الجيش، خصوصاً بصواريخ أرض-جو، انطلاقاً من قواعد فاغنر الموجودة في ليبيا .

الصين
تتبنى الصين نهجا أكثر حذراً تجاه الصراع في السودان حيث تسعى إلى الحفاظ على التوازن بين مصالحها الاقتصادية والالتزام بعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى. وتستثمر الصين في قطاع النفط في السودان وفي قطاع المباني والإنشاءات. وينبع اهتمام الصين باستقرار السودان في المقام الأول من رغبتها في تأمين الوصول إلى الموارد الطبيعية وتوسيع نفوذها الاقتصادي في المنطقة.

الكيان الإسرائيلي
اعتبر الكيان الصهيوني ومنذ تأسيسه القارة الافريقية هدفا استراتيجيا له، وقد حاول فتح علاقات معه لما يملكه من ثروات اقتصادية ومائية، بالإضافة لحدوده الواسعة مع العديد من الدول الافريقية والعربية وخاصة مصر، ومن أبرز ما يسعى اليه الكيان من السودان خاصة هو تأمين عمق استراتيجي عسكري وأمني في وجه اليمن ومصر وايران.

كما يسعى الكيان من خلال التغلغل في السودان، إلى التأثير على الأمن المائي العربي، عبر السيطرة على البحيرات الكبرى في أفريقيا، والوصول إلى منابع نهر النيل، وأيضاً تهديد الملاحة في البحر الأحمر. كما يسعى الكيان الصهيوني إلى السيطرة على الموارد الطبيعية الهائلة في السودان، كالذهب والنحاس والألمنيوم والألماس، وأيضاً النفط.

خامساً: سيناريوهات المعركة وآفاق المرحلة المقبلة


يبدو من الصعوبة بمكان، تحديد إطار نظري واضح وموحد للصراع الدائر في السودان، حيث تتعقد مظاهر الخلاف بين طرفي الصراع، وتتوسع مدخلاتها، بين الصراع على موارد الثروة والسلطة في البلاد، وصولاً إلى الخلافات العرقية. في حين يرى خبراء أن من أسباب الحرب الدائرة حالياً، هي انقسام السودانيين بين نخبة تقليدية احتكرت الموارد والقوة في العاصمة ووسط البلاد، وشرائح مهمشة تعيش في أطرافها وأريافها.

ويمثل قائد الجيش عبدالفتاح البرهان الطرف الأول، وقائد قوات الدعم السريع الطرف الثاني، حيث حميدتي يوصف بأنه دخيل من دارفور على الخرطوم. فالبرهان يتحدر من منطقة شمال الخرطوم، درس العلوم العسكرية وأصبح جنديا محترفا، بينما ينتمي الثاني إلى قبيلة في غرب السودان قرب الحدود مع تشاد، ويسخر سكان العاصمة من لكنته المحلية.

وما رفع منسوب الصراع وأوصله إلى نقطة المواجهة العسكرية، أن مناطق الأطراف أصبحت الأكثر ثراء من حيث الموارد، في حين أن أي حكومة في الخرطوم، لم تعالج الاضطرابات الاقتصادية والاجتماعية في البلاد، ما زاد نقمة سكان المناطق النائية على الحكومة. ومن المعلوم تاريخياً، أن المجتمع السياسي السوداني يتركز في وسط السودان.

ولأن أسباب الصراع معقدة، فالوصول إلى حل له، يبدو بعيد المنال، كون أن تسوية حقيقة، يجب أن تتضمن القدرة على تكرار حدوثه، وهذا يحتاج إلى عمل طويل المدى، إذا ما أخذنا بعين الإعتبار التدخلات الخارجية، التي تسعى إلى منع أي حل مستدام، يضمن الإستقرار والإزدهار للسودان. لذلك فإن التوصل لوقف إطلاق نار، ومنع تفاقم المواجهات، هو جل ما يطمح إليه في الوقت الحالي.

ولعل من الأهمية الكبيرة بمكان، هو التوصل إلى وقف إطلاق نار، أي ما يمكن ان يطلق عليه السيطرة على الألم المتبادل، ومنع استعاره، خوفاً من إطالة أكد المعركة. وهذا هو أولى السيناريوهات المتوقعة، أي أن تلجأ الأطراف المتصارعة إلى التخفيف من إمكانية سقوط المزيد من القتلى وصوصاً إلى وقف الخسائر البشرية والمادية، ومن بعدها الجلوس للتوصل إلى حل مشترك، يضمن المكاسب للجميع. ومن هنا كانت محادثات جدة، التي أفضت إلى التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق نار قصير الأمد، لمدة 7 أيام، والإلتزام بإجلاء المدنيين، والامتناع عن الاستحواذ واحترام وحماية كافة المرافق العامة كالمرافق الطبية والمستشفيات ومنشآت المياه والكهرباء والامتناع عن استخدامها للأغراض العسكرية .

ومارس الأمريكيون والسعوديون وكذلك الآلية الثلاثية، ضغوطاً لإنجاح هذه محادثات جدة، من خلال استخدام الطريقة الأميركية (العصا والجزرة).

ورغم أن الولايات المتحدة حضرت بقوة في محادثات جدة، من خلال مستشار الأمن القومي الأميركي جايك ساليفان ومفوض الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية مارتن غريفيث، لكن العديد من المراقبين لا يعلقون آمالاً على ما يجري في جدة، بسبب غياب القاهرة وأبو ظبي، فالأولى تدعم البرهان، والثانية دقلو، وبالتالي فإن أي اتفاق بدون مشاركة تلك القوى، يبدو صعب المنال.

وأتت هذه المحادثات جدة بعد سلسلة غير مثمرة من المبادرات الإقليمية العربية، وأخرى إفريقية قامت بها خصوصا دول شرق القارة عبر منظمة إيغاد للتنمية . كذلك يسعى الاتحاد الإفريقي إلى التهدئة بين الطرفين، خصوصا مع استنفاده آخر بطاقات الضغط على السودان بتعليق عضويته عام 2021.

ومع اقتناع كلا الطرفين، بقدرتهم على حسم المعركة عسكرياً ، يُفتح الباب أمام استمرار المواجهات، وهذا السيناريو هو الأكثر ترجيحاً، حيث أن الهدن العديدة التي تم الاتفاق عليها، سرعان ما كانت تنهار. وترجح العديد من التقارير أن توافق القوات المسلحة وقوات الدعم السريع على وقف لإطلاق النار بشكل دوري، لكن القتال المتقطع سيستمر في المراكز الحضرية. في حين أنه ليس من المحتمل التوصل إلى وقف دائم أو غير محدد لإطلاق النار.

وتشكل الانقسامات داخل الجيش السوداني قيوداً رئيسية على الهدنات المؤقتة، حيث يدعو “المتشددون” في القوات المسلحة إلى تحقيق نصر كامل على قوات “الدعم السريع”.

أما السيناريو الآخر المحتمل، فيتمثل في استمرار القتال العنيف في المدن دون وقف لإطلاق النار في ظل تكافؤ قدرات القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع نسبياً من حيث عدد الأفراد والمعدات. وهناك خطر يتمثل في أن دولاً بالمنطقة قد تبدأ في تزويد “طرفها المفضل” في الصراع بالمال والأسلحة وأشكال الدعم العسكري الأخرى.

ومن ضمن السيناريوهات المطروحة أيضاً، هو أن يلحق أحد الطرفين الهزيمة بالآخر مما يجبر الأخير على اللجوء إلى مناطق ريفية في أطراف نائية من البلاد. وقد يسفر النصر العسكري للجيش السوداني، عن إبعاد قوات الدعم السريع عن المنظومة الأمنية والعملية السياسية، وتشكيل واقع أمني وسياسي جديد في السودان.

أما السيناريو المستبعد، فهو أن يوافق الجيش والدعم السريع على وقف دائم لإطلاق النار لكن خطر اندلاع أعمال عنف في المستقبل يظل قائماً.

وتشير التكهنات أن الولايات المتحدة ربما منحت الضوء الأخضر للجيش السوداني لتقويض قوة الدعم السريع بسبب علاقتها مع روسيا، أو أنها لا تمانع في ذلك في أدنى تقدير، أما دول الخليج العربية فيبدو أن موقفها من الصراع إجمالاً لا يزال منصباً على دعوات الدبلوماسية وإنهاء الحرب. ورغم ذلك، تشي كل المؤشرات أن الحرب ماضية في طريقها دون أن تعرقلها هدنة أو اتفاق يُنهي الأزمة في المستقبل القريب.

وحدد الجيش السوداني شروطاً لتثبيت الهدنة تتضمن، خروج قوات الدعم السريع من الأحياء السكنية، وإزالة عشرات من نقاط الارتكاز التي نشرتها، والانسحاب من وسط الخرطوم والمؤسسات المدنية والخدمية التي سيطرت عليها، وأبرزها مركز التحكم الرئيسي للكهرباء ومصفاة الجيلي لتكرير النفط في شمال الخرطوم بحري. كما شملت شروط الجيش تجميع قوات الدعم السريع بعد انسحابها في معسكر واحد يوافق الجيش على مسافته من العاصمة، وذلك إلى حين الاتفاق على خطوات دمجها في المؤسسة العسكرية، وتعهد بعدم التعرض إلى القوات المنسحبة.

أما قوات الدعم السريع، فقد طالبت بمراقبة دولية لعملية انسحابها من المؤسسات والمواقع المدنية، والسماح بتجميع قواتهم وآلياتهم ومركباتهم العسكرية في القواعد التي كانوا فيها قبل منتصف أبريل/ نيسان الماضي أي موعد اندلاع المواجهات، والبقاء في المواقع العسكرية والسيادية التي يتواجدون فيها حالياً، وعلاج جرحاهم في مستشفيات محددة، والسماح بسفر من يحتاجون علاجا إلى خارج البلاد .

وتشمل المطالب أيضا استمرار سداد استحقاقات ورواتب قوات الدعم السريع المالية من وزارة المالية، ووقف استخدام الطيران الحربي وتحريك قوات الجيش بعد الاتفاق على تثبيت الهدنة وفرض رقابة دولية بهذا الشأن، وضمانات بخروج آمن لقياداتهم إلى الوجهة التي يحددونها.

وفي خضم الصراع، تبرز القوى السياسية المدنية بوصفها عاملاً من عوامل إطالة تلك الحرب، أو أحد مسبباتها بعيدا عن التنافس التقليدي بين الجيش والدعم السريع، وبين حميدتي والبرهان نفسيهما. فكلا الرجلين يمتلك في الداخل قوى مدنية تدعم تحركاته، وتبارك خطواته فيما يتعلق بالعملية السياسية نفسها، سواء القوى المتضررة من إطالة الفترة الانتقالية، أو تلك التي من مصلحتها تعقد المشهد على أمل أن تجري مياه جديدة تعيدها إلى الصورة.

يُضاف إلى ذلك أن انقسام القوى المدنية والنخب السياسية حول قتال العسكريين يُدخِل البلاد في نفق مظلم سياسيا على غرار ما حدث في ليبيا.

وفي النهاية، تُهدِّد إطالة أمد القتال بانضمام المدنيين إلى المعارك، وتُمهِّد لظهور جماعات مُسلحة تتقاتل على كعكة السودان وتزيد من رُقعة القتال والفئات الاجتماعية المرتبطة بهذا الطرف أو ذاك. وفي حال فشل التفاوض وتأخر الحسم العسكري لصالح أحد الأطراف، فإن احتمالات تحوُّل المعركة إلى حرب بالوكالة مع دخول أطراف إقليمية أو دولية يزداد، ما يعني عندها دخول البلاد إلى نفق مظلم لسنوات قادمة.

مواضيع ذات صلة
مواضيع ذات صلة
مواضيع ذات صلة
Related articles